حرية التعبير: بناءٌ جميل ولكن..

مايو 31, 2023

“للجدران آذان تسمع” هي مقولة مأثورة لطالما سمعنا بها وتكاد تشكّل موروثاً فكرياً لمختلف المجتمعات في شتى أنحاء المعمورة. وإن كنت أحاول توجيه معناها في سياق مختلف قليلاً عن المقصد الأساسي، والذي يرتبط ربما  بهواجس سياسية ضمن المجتمعات المغلقة، فلأنني أحاول أن أغوص عميقاً في ذلك العائق الداخلي الذي يمنعنها من الإفصاح عن أفكارنا وهواجسنا حتى أمام أنفسنا. ولعلّ بعضنا تخيّل المباني المحيطة وكأنها كائنات تتخفّى تحت عباءة الخرسانة ولا تمتلك من الملامح سوى آذا كبيرة مهمتها تمرير ما نقوله  إلى كل من يمر بجانبها. 

ولكن لماذا ترتبط حرية التعبير بكل تلك المخاوف إن كانت معظم الدساتير والحكومات تضمنها كحق أساسي من حقوق أفرادها؟هل لأنها محكومة بالعادات والتقاليد المجتمعية؟ أم لأنها قد تفرز مشكلات جوهرية من شأنها تدمير النسيج المجتمعي والعلاقات الإنسانية في حال تم تطبيقها بعيداً عن الضوابط والأخلاقيات؟

نعلم أن حرية التعبير تشكّل عاملاً جوهرياً لتطور المجتمعات وتعزيز القدرات والنهوض بالأمم إلى مستويات هائلة من الحضارة والرقي، وهذا ما سنتطرق إليه لاحقاً، ولكن في البداية دعونا نناقش الدوافع الأخلاقية والإنسانية، بعيداً عن السياسية، التي قادت لوضع ضوابط لا يمكن تجاوزها فيما يتعلق بحرية التعبير.

تخيل أن لديك جاراً يعاني من تشوه في وجهه مثلاً، وأنّ لك عين حساسة لا تتقبّل التقاط أي مظهر يبدو قبيحاً من منظورك، فهل تعبيرك عن مشاعر الاشمئزاز أو القرف تجاه ذلك الشخص، سواء بالكلمات أو الإيماءات، يبدوأمراً طبيعياً ولن يسبب لجارك جرحاً لا يندمل؟

يمكن إسقاط هذا المثال على العديد من الحالات التي لا يمكن معها التعبير عن المشاعر بحرية مطلقة، لأن مشاعرنا ليست جميلةً تماماً، بل تحمل أحاسيس مؤذية لا طاقة للغير على تحملّها، وبعضها قد يسبب لصاحبها إحساساً بالذنب. لذلك كان لا بد من وضع ضوابط أخلاقية ومجتمعية لكبح جماح ما نفكر به والاحتفاظ به لأنفسنا وحتى نسيانه تماماً لأنه لا يؤدي إلّا لدمار الذات.

أمّا الشق الآخر من حرية التعبير، والذي يُعدّ من العوامل المهمة للارتقاء بالمجتمعات، فيتمثّل في تلك المساحة المخصصة لإطلاق العنان لأفكارنا وإبداعاتنا بشكل مطلق، وهو ما تضمنه منصة باز وتنادي به، وهنا نتحدث عن أحد الحقوق الأساسية التي تكفلها العديد من الدساتير في جميع أنحاء العالم، وتشمل الحق في التعبير عن الآراء والأفكار والمعتقدات، والبحث والتلقين والتعلم والتعليم.

وتعتبر حرية التعبير أساسًا لحرية الصحافة وحرية التجمع وحرية الانتماء الديني وال، وتعتبر أيضًا أساسًا للديمقراطية، حيث يمكن للمواطنين التعبير عن آرائهم والمشاركة في الحوارات العامة. وعلى الرغم من أن هذه الحرية مكفولة دستوريًا، إلا أنها لا تعني حرية التعبير عن أي شيء دون تحمل المسؤولية عن النتائج.

في الواقع، يتم تحديد حرية التعبير بواسطة قوانين الدول وتشريعاتها، وتتضمن بعض القيود مثل تجريم التحريض على الكراهية والعنف، والتشهير والقدح والابتزاز، ونشر المعلومات الزائفة والمضللة. كما يتم تحديد بعض القيود الأخرى بناءً على الثقافة والقيم في المجتمعات، وهذا يعني أن القيود قد تختلف من دولة إلى أخرى.

ومن الجدير بالذكر أن حرية التعبير لا تعني حق الإساءة والإهانة للآخرين، ولا يمكن استخدامها كوسيلة للتحريض على العنف أو التمييز والتفرقة بين الناس. لذلك يتعين على الأفراد إدراك القيود والحدود المفروضة على هذا الحقّ و تحمّل المسؤولية الكاملة عن استخدام مساحتهم في حرية التعبير.

ويمكن للحكومات أن تستخدم حرية التعبير كوسيلة لتعزيز التنمية والتحرر وتعزيز حقوق الإنسان، وذلك من خلال السماح بالحوارات والمناقشات العامة والتي يمكن أن تساعد على تحقيق الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمعات.

وعلى الرغم من أن هذه الحرية لها دور هام في تعزيز الحرية الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، إلا أنه يجب أن تكون محدودة بما يتوافق مع القانون والأخلاقيات والقيم الاجتماعية، وذلك لحماية المصالح العامة والحفاظ على الاستقرار في المجتمعات.

في النهاية، يمكن القول بأن التوظيف السليم لتلك الحرية من شأنه تفعيل مشاركة الأفراد في النقاشات العامة وتعزيز الحوار الديموقراطي والشفافية وثقافة القبول بالرأي الآخر واحترامه مهما بلغت الاختلافات الثقافية.