المجتمع الرقمي: ثورة في حياتنا

مايو 28, 2023

شوارع مضاءة بالقناديل، حجارةٌ حملت أحلام من يسير عليها وجدران دوّنت على ملامحها محادثات العائلة ودفء اللقاءات. كنت أسمع من جدتي الكثير من القصص والروايات، وكنت أحاول أن أستحضر شخوصها وأتلاعب بالمشاهد كيفما يحلو لي.  كان ذلك هو حال الحياة البسيطة التي اعتاد جيل الألفية ما قبلها اختبارها على مر الزمن. ولكن وخلال العقود القليلة الماضية، اكتسى الكوكب ثوب التكنولوجيا بسرعة قياسية لتتحول البشرية إلى عصر آخر  يسيطر عليه التطور الرقمي الذي بات يتدخّل في تفاصيل حياتنا اليومية. وقد أدت هذه التكنولوجيا إلى تشكيل عقد مجتمعي جديد، يتميز بتفاعلات حضارية وثقافية مختلفة عما كانت عليه في الماضي.

لم يكن لأحد أن يتصور بلوغ التكنولوجيا هذه المستويات المتطورة بشكل مخيف، وبتّ على قناعة تامة بأن ما شهده خواكين فينيكس في فيلم  HER مثلاً وعلاقته المباشرة مع برنامج روبوتي قد يتحول إلى واقع بعد سنوات قليلة. ولعلّ هذه المشهد الغريب الذي أخذت ملامحه تهيمن على نمط الحياة هو ما دفعني لكتابة مقالتي التي أحاول من خلالها تحليل بعض جوانب المجتمع الرقمي وتأثيره المباشر على حياتنا ومشاعرنا الإنسانية.

التأثير على التواصل الاجتماعي

أدت التكنولوجيا الرقمية إلى إحداث تغيرات ملحوظة في طبيعة التواصل بين البشر. فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح لدينا قدرةً غير مسبوقة على التشبيك والتفاعل مع الآخرين عبر الإنترنت، وصياغة علاقات جديدة من أناس نجهلهم من بيئات وثقافات بعيدة عنّا، ومشاركة أفكارنا وآرائنا وتجاربنا بسهولة وسرعة.

ومع ذلك، فإن هذه التطورات أثرت أيضًا على ديناميكيات التواصل الاجتماعي وطبيعة العلاقات المجتمعية. فقد أدى اعتمادنا على وسائل التواصل الرقمي إلى توجيه مسار التواصل و طريقة تبادل الأفكار والمعلومات نحو عوالم افتراضية تهدّد الحياة الواقعية.

 تأثير التكنولوجيا على الهوية الرقمية

قادت التكنولوجيا إلى إنشاء هوية رقمية للأفراد على الإنترنت من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية الأخرى، مما ساهم في نشوء حالة جديدة قد لا تعبّر عن شخصية الأفراد، ولكنها تخدمهم في تحقيق بعض الأهداف التي يرغبون في بلوغها، حتى ولو اقتضى الأمر إخفاء بعض التفاصيل الشخصية والإدعاء. وهذا ما يعتقده البعض خروجاً عن العادات والتقاليد المتأصلة في مجتمعاتنا العريقة، ولكنه بات أمراً واقعاً علينا التعامل معه بوعي ودراية.

التأثير على التعليم والتعلم

منحت المجتمعات الرقمية مساحةً مثاليةً لتوفير فرص التعلم عبر الإنترنت والوصول إلى المعرفة على نطاق واسع. ومكّنت الأفراد من الوصول إلى البيانات التي تهمّهم والحصول على مصادر لم تكن متاحة في السابق، ولكن تطور طرق التعليم الرقمي واستخدام التكنولوجيا في التعليم العالمي قد يحمل أيضًا تحديات تتعلق بجودة هذه العملية وفعاليتها.

تأثير التكنولوجيا على الاقتصاد والعمل

قادت التكنولوجيا إلى تغير في طبيعة سوق العمل وظهور وظائف جديدة تتطلب مهارات رقمية مختلفة بما يتناسب مع المهام التي أخذت بالنمو. كما شهد العالم ازدياداً في الاعتماد على التكنولوجيا في عمليات الإنتاج والخدمات، بكل ما تحمله من تأثيرات ملحوظة على الاقتصاد والاقتصادات الرقمية.

التأثير على الخصوصية والأمان

لم تتمكن التكنولوجيا رغم التطور الهائل الذي يكتنفها من تحقيق مستويات خصوصية وأمان تمنح المستخدمين ذلك الشعور بالراحة من أن معلوماتهم غير معرّضة للاختراق، خاصةً مع الهجمات الرقمية من قبل جيوش “الهاكر” والتحديات المتواصلة التي تواجه الأمن السيبراني.

التأثير على الصحة والرفاهية

أصبح استخدام التكنولوجيا أكثر شيوعاً في مجال الرفاهية والرعاية الصحية، مثل الرصد الصحي الرقمي والتطبيقات الصحية التي تتيح خيارات رائعة للمستخدمين الراغبين في تعزيز معارفهم وإثراء مصادر الرعاية لديهم، ولكن الصورة لا تبدو بذلك الإشراق إذا ما أردنا رؤية المشهد ككل، ونقصد هنا تأثير التكنولوجيا السلبي على الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية بسبب افتقاد المجتمع للتواصل الفعلي على حساب التواجد ضمن المنصات الافتراضية.

ولا يقتصر تأثير المجتمعات الرقمية والتكنولوجيا على ما سبق، وإنما يتعداه إلى جميع المجالات الحكومية والسياسية والثقافية والفنية.

علينا الاعتراف بأن العالم تغير تماماً، وبات يعتمد بصورة كلية على التقنيات والفضاءات الافتراضية، ولكن علينا أن نكون أكثر وعياً وذكاءً في الاستفادة منها، وتحويلها إلى صديق مثالي يساعدنا في بلوغ أهدافنا ويضمن لنا النجاح في المجالات التي تهمّنا، وعدم الانجرار الأعمى وراء المغريات التي من شأنها تحويلنا إلى مجرد أرقام تائهة في ثقب أسود يبتلع كل ما يدخل إليه.